ليبقَ الأمل   

      قصة من الواقع مستوحاة من واقع مدرسة السلم الثانية

د/ يحيى زكريا الأغا

مشرف مدرستي السلم الثانية والخامسة

في ميادين التعليم كثيرة هي قصص النجاحات الفردية أو الجماعية، وكثيرة هي التحديات التي تواجه الإنسان، ولكن النجاح يحوّل التحديات إلى دافعٍ من أجل تقديم الأجود والأفضل للعملية التعليمية، بل والاقتداء بها وتطويعها برؤى جديدة تنعكس إيجاباً على العملية التعليمية.

منذ ثلاثة أعوام أُتيحت لي  فرصة بتكليف  من التعليم فوق الجميع  بدولة قطر بتأسيس مدرسة برؤية  ورسالة تم وضعها استناداً للفكرة، تختلف كُلياً عما هو متعارف عليه من الرؤى، فهذه المدرسة ، ترتكز أساساً على فئة من الطلاب قدموا  إلى دولة قطر مع ذويهم، هرباً من الحروب والنزاعات في دولهم،  ليجدوا الأمن والآمان فيها، وكان معظم الطلاب من فاقدي التعليم، وفاقدي الكثير من المكونات الرئيسية لبناء الإنسان، وقِيم الحياة البسيطة،  سواء الفسيولوجية أو التعليمية،  أو الفكرية، مما يجعل المهمة صعبة للغاية.

ولكن السؤال الذي طرحته على نفسي :  كيف يمكن لي أن أكونُ التغييرَ  الذي أريد أن أراه في هذه الفئة !؟ وكيف السبيل إلى استقطابهم في مدرسةٍ تُعيدهم إلى الطريق السوي! ؟ وكيف يمكن تطبيق رؤية ورسالة  المدرسة لتنسجم وتطلعاتهم لإعادتهم إلى الحياة من جديد!؟  وكيف يمكن إيجاد معقد دراسي  لهم لمن فاته قطار التعليم؟ وكيف يمكن تحقيق أملهم وحلمهم الجميل في المستقبل؟ أسئلة متشابكة، ومتداخلة، وكل سؤال يحتاج إلى إجابات نظراً لخصوصية المدرسة، وخصوصية هذه الفئة من الطلاب،  ولكني تعلقت بالأمل لهدف إنساني، مع عزيمة وإصرار لمواجهة التحدي،  مع الصبر والتعقّل والحكمة،  فانتظرت  لحصد النتيجة ثلاثة أعوام ، لتحقق الرؤية والرسالة.

كان من الضروري  التفكير خارج الصندوق أثناء التحضير لهذه المدرسة، والذي استغرق قرابة ستة أشهر، لتنطلق في سبتمبر عام 2019 وخلال قيامي بالمهمة، واجهت تحديات متنوعة، تتمثل في البيئة التعليمية، والبيئة الاجتماعية، والبيئة العملية،  والتطبيقية للقيام بالمهمة،  وبمستوى أولياء الأمور، وآليات التعامل معهم، وآليات إقناعهم، وفرص قبول أبنائهم في المدرسة.

 كثيرة هي المقدمات التي يمكن أن تقف حائلاً دون الاستمرار في العمل، وبالمقابل كان لديّ أمل وإصرار شديد لتحقيق الهدف، والرؤية، ومعي فريق العمل المميز، والذي اخترته بعناية، والذي كان يشاطرني متعة التجربة الجديدة، لهدف أحسبه كان سامياً، ولرغبة من صُنّاع القرار – التعليم فوق الجميع _ بضرورة إنجاح المشروع بأسلوب ينسجم وتطلعاتهم.

ليس سهلاً أن تطبق رؤية تعليمية على مشارب مختلفة من الطلاب بمستويات أيضاً مختلفة، وعادة فإن  الرؤية لأي مدرسة توضع لمرحلة تعليمية واحدة، ولطلاب لهم عمر زمني موحّد، ومستوى اجتماعي متقارب، وبيئة اجتماعية متشابهة، ولكن، في مهمتنا كل طالب لابد له من رؤية تختلف عن الآخر، وكل ولي أمر يحتاج إلى أبجدية تعامل مختلفة، لأن البيئات متنوعة العادات والقيم، وأساليب التعامل مع البيت تحتاج إلى ثقافة من نوع خاص، فكيف السبيل إلى النجاح.

إن التخطيط السليم، مع فكر منظم، وعزيمة صادقة، وحب لِلمهمة، مع الأمل يسوق دوماً لنجاح، ليس من الضرورة أن يكون مميزاً، ولكنه خطوة على الطريق الصحيح، فقد كان الهدف هو تحويل جيل هائم على وجهه دون هدف، إلى جيل بدأ يحلم بالمستقبل،  لتحقيق هدفه الذي يرسمه بنفسه. فالإيمان بإمكانية النجاح هو الخطوة الأهمّ في تحقيق النجاح على أرض الواقع.

أصبح لدينا كادر إداري رائع، وطاقم تعليمي مميز، وأسرة تعليمية متعاونة داخل جدران المدرسة، بإيقاع عالي المستوى ومتناغم مع بعضه الآخر، في سيمفونية أسميتها ” ” نُعلم – نُبدع – نتميز”  وبعد عامين فقط، أصبح كل طالب داخل حديقة المدرسة، يحمل في ذاكرته هدفاً يسعى لتحقيقه.

أعترف بإن مهنة المعلم  شاقة، وصعبة ومرهقة،  ومسؤولية عظمى.. تحتاج إلى التضحية ونكران الذات،  والكثير من الجهد والاجتهاد والابتكار والمبادرات،  لكنها في نفس الوقت،  مهنة ممتعة لمن عشقها وآمن برسالتها، وعمل بقيمها، وأرسى قواعدها بفكر مستنير،   وقد وضعت هذا نبراساً لعملي في المدرسة، ونقلته إلى  الكل الذي أصبح جاهزاً  ومتفتحاً لاستقبال أي رؤية ليتبناها، وليصبح الكل العامل دون استثناء يساهم في رسم ملامح المدرسة ، عاشقاً لرسالته لتحقيق الرؤية الجمعية للمدرسة، إلى أن أصبحت رقماً في أجندة وزارة التعليم والتعليم العالي.

كيف كان هذا، إنها قصة أحسبها تُسجل في سجل خالد من سجلات المبادرات التعليمية الرائعة في قاموس التعليم فوق الجميع، ووزارة التعليم العالي بدولة قطر.

لم يكن سهلاً أن يمضي العام الأول دون معوقات، وأحسبها كانت أصعب مما يتصوره إنسان، كيف بك أن تُنسّب طالباً إلى صفه دون أن يحمل شهادة دراسية؟ وكيف يمكنك أن تتعامل مع طالب فقد عامين من الدراسة، وترغب في إلحاقة بمقاعد الدراسة؟ وكيف يمكنك أن تتعامل مع مَن فقد أباه، أو أمه، ويعيش مع زوجة أبيه، أو يصحو من النوم مذعوراً ليركب الحافة المجانية ويتجه للمدرسة؟ وكيف يمكن للطالب أن يتعامل مع جهاز IPAD الذي يجب أن يلازمه فترة الكورونا، وكيفية  توصيل المعلومة  إليه عندما تحوّل التعليم عن بُعد، وكيف يمكنك أن تتعامل مع أكثر من ثلاثة أخوة في البيت، ولديهم جهاز واحد للتواصل مع المدرسة؟ وكيف لك أن تؤمن  وسيلة نقل لهم مع تباعد المسافات بين سُكناهم باحثين عن الأرخص.؟

كل هذه التحديات وغيرها كان من الضرورة التعامل معها لحوالي (600) طالب وطالبة من أعمار مختلفة من الصف الأول وحتى الثاني عشر، وقرابة (1200) ولي أمر داخل بوتقة واحدة.

ربما يظن البعض أن المهمة صعبة وشاقة – وهي كذلك –  ولكن إذا أحب الإنسان عمله، أبدع، وإذا شعر بتقدمٍ ولو بطيئاً، تقدّم، فلا العقل يمكنه أن يعجز عن  التفكير لتحقيق الهدف، ولا الإمكانيات والدعم غير متوفر، كيف ذلك، ونحن من نريد أن نُلهم الأطفال أن يحلموا بأهداف ليحققوها، وكيف نُشعرهم أننا غير قادرين على العطاء رغم الصعوبات، ومواجهة التحديات بثبات، ومن هنا  تم إيجاد الحلول، وتجاوزنا مرحلتي التحدي  بثبات، بل والانتصار ونكران الذات.  لا أزعم أنه نتيجة عمل فردي، ولكنه تخطيط فردي  قاد لعمل جماعي أثمر نجاحاً.

في البداية تجاوزنا الحالة النفسية التي كان يعيشها الطلاب وهي متشعبة الأوجه والاتجاهات، من خلال تأهيل فريق العمل  الإداري والأكاديمي تأهيلاً جيداً، وبدأنا نشق طريقنا بثبات لِآليات التعامل مع الطلاب وذويهم، ليصبح الجميع قادراً على مواجهة التحديات، وفرضنا العديد من السيناريوهات التي تم استقصاؤها من حالات أولياء الأمور، وتم التركيز عليها عملياً بدورات وورشات عمل، وحققنا في فترة وجيزة تقدما أحسبه جيداً، وكان هذا هو الأهم.

 أما التحدي الثاني، فكان ظهور وباء كورونا، وتحويل العملية التعليمية بكاملها عن بُعد، كيف لنا أن نستمر في التعليم ونحن  ما زلنا في بداية الطريق؟ كيف لنا أن نُبقي على حالة الاستقرار التعليمي لدى الطلاب في ظل عدم التواصل الاجتماعي من الطلاب؟ كيف لنا تحقيق الحُلم الذي بدأ يتبلور داخل مخيلتهم؟ أعترف بأننا وخلال الأشهر الثلاثة الأولى قبل الانقاع عن المدرسة بأننا حققنا الكثير، فالطلاب  ما زالوا يكبرون بفكرهم معنا، ومازالوا في شغف للتعلّم، وإذا بنا ننفصل! فكيف السبيل إلى إعادة برمجة جديدة بحيث تضمن لهم الاستمرارية في التعليم وظروفهم الاقتصادية أجزم أنها صعبة لشراء جهاز تواصل مع المدرسة، وحياتهم البيتية جداً صعبة، عائلات يعيشون في مكان واحد، واسر مشتتة، لا يمتلكون أجهزة للتواصل الاجتماعي، وأغلبهم أميون حتى في  القراءة والكتابة، فما بالكم بالأجهزة الحديثة للتواصل مع المدرسة  ليواصلوا التعليم  مع معلميهم.

  هنا كان من الضروري أن يتفتق الذهن في يوم 9/3/2020  بضرورة عمل منصة تعليمية للطلاب،  فبدأت بتشكيل خلايا طوارئ مكونة من جميع المعلمين والمعلمات، تكفلت إحدى الخلايا بتعليم أولياء الأمور آليات التعامل مع أجهزة اللاب توب، والجوال، والمنصة التعليمية لأبنائهم، وخلية أخرى تم تكليفهم بشرح كل الدروس المتبقية في  الكتاب المدرسي،  وثالثة تقنية بنجهيز الغرف الصفية لشرح الدروس، وخلال أقل من شهر تم الانتهاء من المنهاج كاملاً، وكان يوضع على المنصة  التعليمية الخاصة بالمدرسة واسمها ” السلم الثانية” https://www.second-assalamschool.com/  لكل صف ومادة، وبدأنا نسقط المواد التعليمية حسب اليوم الدراسي في الجدول المدرسي،  واستمر الحال على هذا المنوال  إلى نهاية العام الدراسي، وتجاوزنا بالتعاون مع بعض المؤسسات الداعمة للمشروع، “فودافون” بتوفير أجهزة اتصال WiFi،  وأجريت الامتحانات حسب النظام، وانتهى العام الدراسي بالتغلب على هذا التحدي. ولكن كيف كان هذا؟ وكيف استطاع الطلاب أن يتواصلوا مع المدرسة، ومع المعلمين والمعلمات، وكيف وكيف  وكيف.

ومضى قطار العام الثاني من العمل المدرسيّ باقتدار، وتحقق مزيد من النجاحات، وبرزت المواهب لدى الناشئة، وبدأوا يحلمون، ويحققون جزءاً من رؤيتهم لتجديد الثقة بأنفسهم أنهم قادرون على اجتياز الصعاب طالما تقف وراء هذا عزائم صادقة، وقدرات ممنهجة، ولغة جديدة غير التي عهدها قبل دخول المدرسة، فأثمرت عن تخرج (12) طالباً من الثانوية العامة، ودخلوا الجامعات، ليبدأوا رحلة البحث عن المستقبل بفكر مستنير اكتسبوه من أروقة المدرسة.

سنة ثالثة أخرى رسخت كل الأحلام وحولتها لواقع، وأصبح كل من في المدرسة يستمتع بأنه أنجز، أو سينجز من أجل هذه الفئة من الطلاب التي أصبحت بصمة إيجابية  في مسيرة المعلم، وإضافة جديدة لم يكن يتوقعها في مسيرة حياته، وهكذا تستمر الحياة، ويبق الأمل طالماً وجدت الأيادي الصادقة لتحقيق الحُلم الجميل .

إن رسول الإنسانية محمد عليه السلام بُعث معلماً، وعلى نهجه نسير، ومن هنا أقول :  بأن المعلم  يجد ويجتهد ليحمل الفرح والأمل  إلى الناشئة ،  لينتشلهم من آتون  الجهل أو المستقبل الغامض، إلى الأمل بالمستقبل، …. فهؤلاء الطلاب  في طور التكوين، يحتاجون إلى من يحضنهم ، ويحبهم، ويهديهم،  ويصافحهم بلطف وحنان.. إنه المعلم القادر على ذلك، وفي نفس الوقت، يستحق منا كل الحفاوة والتكريم والعرفان بجميل عطائه وبدوره الحساس والفعال الذي يلعبه في إثراء الساحة التربوية والتعليمية والأخلاقية، وهذا كُلّه تجدونه في مدارس السَّلَم بدولة قطر،  ومدرسة ” السَّلَم الثانية”  تحديداً وهي محور التجربة والتحدي والنجاح.